[color=blue]أولاً: الإعجــــــــاز العلمـــــي وتــــــــــــاريخـــــــه [/color]
تمهيــد:
الحمد لله القائل (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).
فهو كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أعجز البشر في بلاغته وأسلوبه وتشريعه وإخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلية وحقائقه التي أذعن لها العلماء قال تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) والصلاة والسلام علي من أرسله الله رحمة للعالمين بشيرا ونذيراً وجعل رسالته خاتمة لجميع الشرائع ... أما بعد:
فإن إعجاز القرآن الكريم وإقامته الحجة علي الناس أمر لا يحتاج إلي استدلال لاعتراف الجميع به فهذا الوليد بن المغيرة – وهو أحد صناديد الكفر – يقول واصفاً القرآن الكريم: (والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليحطم ما تحته وأنه ليعلوا وما يعلى).
وقد تنبه المسلمون لأهمية الإعجاز في القرآن الكريم في وقت مبكر وأعطوه عنايتهم وكانت بدايات تلك الاهتمامات منصبة علي الإعجاز البياني لأنه الأظهر في إقامة الحجة زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) لما كان العرب يتمتعون به من فصاحة وبيان، ولذا كان القرآن الكريم في إقامته للحجة عليهم بمثابة الآيات الحسية التي أعجز بها الأنبياء أقوامهم، يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ويقول (صلى الله عليه وسلم) مبيناً هذا المعني: (ما من الأنبياء نبى إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي).
غير أن هذا الاهتمام لم يكن في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وإنما جاء بعد ذلك لأسباب منها:
1- لمشاهدتهم أو قربهم من عجز الخصوم عن المعارضة وإذاعاتهم لتصديق القرآن الكريم، ثم انتهاء المعارضين بإسلام أهل الجزيرة العربية.
2- لانشغالهم – رضي الله عنهم – بالدعوة والجهاد.
3- لبعدهم عن القضايا الجدلية الشائكة التي لا ينبني عليها عمل.
ولما وقعت الفتوحات الإسلامية ودخلت أمم جديدة في الإسلام كالفرس والرومان... وكانت لها حضاراتها التي نقلوا بعضها إلي الثقافة الإسلامية ثم توسع في ذلك حتى ترجمت كتبهم إلي العربية ودخلت مصطلحاتهم إلي تراثنا الإسلامي، فتصدي لهذا الوافد الجديد بعض العلماء بالرفض وعدم القبول بادئ الأمر.
إلا أن قوة هذا الاتجاه ودعم السلطة له وظهور علماء مؤمنين به مكن له حتى أصبح فيما بعد اتجاهاً عاماً،يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في هذا الصدد: (في أيام المأمون كانت جميع المؤلفات توجد فيها عبارات واصطلاحات منطقية لا يفهمها إلا من له إلمام به لا يفهم الرد علي المنطقتين فيما جاءوا من الباطل إلا من له إلمام بفن المنطق) ثم قال: (ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلي العربية ولم تعلمه عنه سلفهم لكان لما ترجم وتعلم... كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردوا حجج المبطلين بجنس مال استدلوا.
فذلك قبل العلماء هذه المصطلحات واستعملوها بعد أن نقحوها مما يخالف المعتقدات الشرعية.
أما المصطلحات التى لم تكن معروفة قبل سواء منها ما يتعلق بالعقائد والأصول أو التفسير أو النحو أو البلاغة فهي أخف من ذلك، بل عدت سمة بارزة من سمات التجديد والإبداع الثقافي في حضارتنا الإسلامية الواقعية وذلك لعدم مخالفتها أصول الشرع ومقاصده ولغته العربية، ومن تلك المصطلحات الكثيرة مصطلح (المعجزة والإعجاز).
الألفاظ المرادفة لهذا المصطلح:
رغم قرب هذا المصطلح – الدال علي الأمر الخارق المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة – إلي الذهن إلا أني أجده في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) دالاً علي هذا المعنى، وما وجدته من مادة (عجز) في القرآن والسنة لم أر فيه ما يدل علي هذا المصطلح.
(الآية ، البينة، البرهان ، السلطان) وإليك بيانها مرتبة:
يقول تعالى: (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) يقول أبن كثير رحمة الله في تفسير الآية: (يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد إيمانهم أي حلفوا أيماناً مؤكدة (لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة وخارق (لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) ويقول تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) يقول أبن جرير التي سألها قومك إلا أن كان من قبلهم من الأمم المكذبة سألوا ذلك مثل سؤالهم فلما أتاهم ما سألوا إلي قومك بالآيات لأنا لو أرسلنا بها إليهم فكذبوا بها سلكنا فغي تعجيل العذاب لهم مسلك الأمم قبلهم).
وكذلك الحال بالنسبة (للبينة) كما في قوله تعالى: (قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ) حيث يقول ابن جرير في تفسيرها: (قال قوم هود لهود: يا هو أتيتنا ببيان ولا برهان علي تقول فنسلم لك ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك).
فنلاحظ أنه فسرها بالبرهان كما في قوله تعالى مخاطباً رسوله موسى عليه السلام (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) قال مجاهد والسدى رحمها الله: هي إشارة إلي العصا واليد... ويقول أبن عطية في تفسيرهما: حجتان ومعجزتان .
أما السلطان فجاء في قولنه تعالى حاكياً عن الأمم السالفة قولها لأنبيائها عليهم السلام: (قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) يقول القرطبي: أي بحجة ظاهرة وكان هذا محالاً منه، فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.
التتبع التاريخي لاستخدام المعجزة والإعجاز:
يمكن ان تتبع ظهور المصطلح واستخدامه حتى أصبح شائعاً معروفاً تعلي النحو التالي:
أول من نسب إليه استخدام هذا اللفظ البصري المعتزلي المتوفى سنة 231 هـ.
ويظهر أنه مسبوق كذلك لأنه كان يقول بأن العرب عجزوا لصرفهم عن المعارضة وهو مذهب باطل وأما أول من بحث هذه القضية وتصدى لها بالبحث – حسب المراجع المتوافرة – فهو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ يقول الأستاذ/ عبد الكريم الخطيب: (يعتبر الجاحظ أولمن تصدى لهذا الأمر وجعله موضوعاً خاصاً للنظر والدراسة).
وقد توسع الجاحظ فغي مسألة سر الإعجاز والبلاغة، وهل ذلك عائد إلي نظم القرآن وأسلوب صياغته أم هو عائد إلي المعني؟ وفصل في ذلك ورجح.
وهذا الصنيع يدل علي كذلك علي أن المسألة كانت مطروقة قبل الجاحظ وقد تكون ألفت فيها كتب وإن لم تصل إلينا، إلا أن الجزم بذلك غير ممكن.
ولا شك أن الرجلين كانا علمين من أعلام المعتزلة إلا أن ذلك لم يمنع أهل السنة من بحث القضية باستخدام هذا المصطلح كما سيتبين إن شاء الله.
فقد استخدمه أبو الحسن الأشعري وتلميذه البلاقلاني وهما وإن تأثرا بمدرسة المتكلمين إلا أنهما قارعاً المعتزلة وغيرهم بالحجة والبرهان، ورجوع الأشعري إلي معتقد أهل السنة بجامع البصرة ثابت تاريخياً, وممن صرح بهذا المصطلح واستعمله الخطابي وأبن حزم وأبو بكر الجرجاني والقاضي عياض وأبن عطية وشيخ الإسلام أبن تيمية تلميذاه: أبن القيم وأبن كثير وكذلك الشاطبي وأبن حجر... وغيرهم. وأستمر استعمال هذا المصطلح عند علماء المسلمين من غير نكير كما يدل عليه هذا التمثيل الجزئي، فهو مستعمل عن المفسرين، فإن كنا لا نجد التصريح بالمعجزة عند شيخ المفسرين أبن حرير – كما يتضح من النقل السابق عنه، وبالرجوع إلي الآيتين: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ** فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) سورة البقرة:23، 24، حيث أنهما أبول مناسبة تتعلق بالإعجاز (وإن كان ذكر مادة الإعجاز هنا) – إلا أننا نجدها صريحة عند من جاء بعده من المفسرين. وهو موجود عند علماء الحديث كذلك، كما يتضح من النقل عن الخطابي وأبن حزم وعياض وأبن تيمية وأبن حجر – رحمهم الله -.
أما أهل الأصول والعقائد وأهل البلاغة فإنهم أفاضوا في استعمال هذا المصطلح أكثر من غيرهم، ويظهر أن فكرة فن البلاغة نابعة من الخوض في مسألة الإعجاز كما يذهب إلي ذلك الأستاذ نعيم الحمصي حيث يقول: (ولا ريب أن فكرة إعجاز القرآن كانت من أقوى البواعث علي نشأة علم البلاغة إن لم تكن أقواها جميعاً).
تعريف المعجزة والإعجاز في اللغة والاصطلاح ومدى مطابقة ذلك للمعاني الواردة في القرآن الكريم:
يقول ابن منظور: يقال عجز يعجز عن الأمر إذا قصر عنه – وضعف – والمعجزة واحدة معجزات الأنبياء عليم السلام ويقول أبن حجر: المعجزة أسم فاعل من الإعجاز وسميت بذلك لعجز من يقع عندهم ذلك عن معارضتها، والهاء فيها للمبالغة أو صفه محذوف.
والمعجزة في الاصطلاح: أمر خارق مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة.
وإعجاز القرآن يقصد به إعجاز الناس أن يأتوا بسورة مثله مع شدة عداوتهم وصدهم عنه.
أما الإعجاز العلمي فهو إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم).
الخــلاصـة:
تبين من الدراسة السابقة أن إطلاق المعجزة والإعجاز مصطلح شائع وصحيح، وذلك لما يأتي:
1- كان من الأولى أن يوضع لهذا المعنى واحد من تلك الألفاظ الواردة في القرآن كمصطلح دال عليه.
2- إن معجزة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خالدة ومتجددة بخلاف المعجزات السابقة التي كانت تنتهي بانتقال أولئك الأنبياء عليهم السلام إلي جواريهم.
3- إن معنى هذا المصطلح الذي هو (الإعجــاز) مسلم أتفاقاً، وهو عجز العرب وغيرهم عن الإتيان سـورة من القـرآن.
4- صحة التعبير بهذا المصطلح من الناحية الشرعية واللغوية لأصالته وقوة دلالته على المعنى المراد.
5- استخدام علماء المسلمين عبر التاريخ الإسلامي لهذا المصطلح وأمثاله من المصطلحات الشائعة من غير نكير أو مشاحه بل وتقديم تلك المصطلحات المتعارف عليها علي غيرها عند التعارض لأنها أصبحت حقائق عرفية مع أنها لم تكن معروفة في عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
6- أنه يلزم من نقض هذه المصطلحات وإعادة بناءها – علي فرض تسليم أمكان ذلك – الوقوع في الحرج والفوضى العلمية لاستقرار هذه المصطلحات في التراث الإسلامي وفي أذهان العلماء والمثقفين.
7- إن علماءنا رحمهم الله كانوا واقعيين حيث وضعوا هذه المصطلحات لما استجد في الثقافة الإسلامية في زمنهم ووضعوا لها شروطاً وضوابط لتدل علي المراد منها في غير معارضة لأصل آخر، فهل استطعنا أن نفعل ذلك لما جد في حياتنا الثقافية اليوم رغم كثرة الجامعات والمجامع اللغوية ومراكز البحوث واستخدامات الحاسب الآلي المتطورة؟ أم لا زلنا عاجزين عن ذلك،مما يجعل بعض المثقفين والدارسين يبحثون عن مصطلح إسلامي يناسب بعض المصطلحات الأجنبية الوافدة فيعز عليهم وجوده؟ ولا شك أن لغتنا العربية وثقافتنا الإسلامية قادرة علي استيعاب ذلك كما قال حافظ إبراهيم رحمه الله علي لسان العربية:
وسعت كتـــاب الله لفظــاً وغـــايـــــــة
ومــا ضقــت عــن آي بـــه وعظــــــات
فكيـف أضيق اليـــوم عن وصـف آلـة
وتنسيـــق أســمــاء لـــمخترعــــــــات
أنا البحر في أحشائـــه الـــدر كامــن
فهل ســألوا الغـواص عـــن صدفــاتي
8- وأخيرا فأياماً كان الحديث أو المتحدث –من مثل ما سبق – فإن هناك حقيقة تحتفظ لنفسها بحق البقاء ألا وهي: أن أي لفظه لغوية – تحقق المعنى الذي تؤديه في استعمالها – حق يسوغ لأي إنسان أن يستعملها في أي عصر وفي أي زمان لا يضيره ولا يضيرها أن يستوفى استعمالها سابق ولا لاحق، أو تخصص كرمز أو مصطلح عند صاحب فن أو صاحب علم... فكما كان اللفظ حقاً شائعاً مباحاً لهؤلاء وغيرهم فإنه يظل حقاً مكتسباً متسعاً لكل طالب أو راغب الألفاظ غير العربية أوردها القرآن في بعض آياته، وهو الكتاب العربي المبين، ألا يعد ذلك أصلاً دالاً علي أن تعريب الألفاظ واستخداماتها بوضوح في الدلالة علي المراد منها يكسب الكلمة الفصاحة والبيان؟ وهل يسوغ بعد هذا الاعتراض علي استخدام مصطلح دال علي معناه بوضع التخاطب! إن الأمر سهل ولا يحتاج إلي هذا التكلف أو التحكم. والله أعلم.
__________________
يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله :
” من نذر نفسه لخدمة دينه فسيعيش متعباً
ولكن سيحيى كبيراً ويموت كبيراً ويبعث كبيراً .. :
” من نذر نفسه لخدمة دينه فسيعيش متعباً
ولكن سيحيى كبيراً ويموت كبيراً ويبعث كبيراً ..
والحياة في سبيل الله .. أصعب من الموت في سبيل الله “
]ثـانيـاً: ضــــــــــــــوابـــــــــــــط الإعجـــــــــــــاز العلمــــــي في القـــــــــرآن والسنـــــــة
تعريف الحقيقة العلمية وشروطها:
الحقيقة العلمية مركب إضافي، ولتعريفها يلزم التعريف بجزأيها:
فالحقيقة: مفرد وجمعها حقائق، تقول حق الأمر يحق ويحق حقاً وحقوقاً صار حقاً ثابتاً.
والحق: نقيض الباطل، والشيء المتحقق وجوده وأصله المطابقة.
وعرفها الراغب الأصفهاني بقوله: الحقيقة تستعمل تارة في الشيء له ثبات ووجود، أو هي الشيء الثابت قطعاً ويقيناً والتـاء فيها للتأنيث.
وأما العلمية فهي صفة للحقيقة،والعلم نقيض الجهل.
وتعريف العلم في الاصطلاح: هو إدراك الأشياء علي حقائقها والمقصود به هنا: العلم التجريبي.
والحقيقة العلمية في الاصطلاح هي: المفهوم الذي تجاوز المراحل الفرضية والدراسات النظري وحتى أصبح ثابتاً مجمعاً عليه من قبل كافة العلماء المختصين كتمدد المعادن بالحرارة، وانكماشها بالبرودة، وتبخر الماء عند درجة مئوية تحت الضغط الجوي العادي،وتجمده عند درجة الصفر المئوي.
تعـريف الفـرض والنظـريـة:
الفـرض: هو تخمين واستنتاج ذكي يصوغه ويتبناه الباحث مؤقتاً لشرح بعض ما يلاحظه من الحقائق والظواهر
والنظرية: توضيح علاقة الأثر والسبب بين المتغيرات وذلك لشرح ظواهر معينة،والنظريات مراتب بحسب قربها وبعدها من الحقائق.
وأقوى النظريات هي تلك التي تقدم شرحاً أكثر منطقية لتلك الملاحظات.
إن النظرية السليمة التي يتم الوصول إليها في دراسة علمية لا يمكن اعتبارها حقيقة نهائية،وإنما تمثل أفضل إجابة يمكن الوصول إليها، وهي قابلة للتغيير وإحلال أخرى محلها، ولذا كان من ضوابط الإعجاز وجود الحقيقة العلمية الناصعة وعدم ربط أي القرآن الكريم بالنظريات القابلة للتبديل والتغيير.
ضوابط استخراج وجه الإعجاز بين النص والحقيقة:
إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي وفق الأصول الشرعية المقررة مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة.
وتمكن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وخصوصاً في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين علي هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع، وذلك لتميز هذا العصر بالعلم ومكتشفاته، حتى أصبح العالم سمة من سماته.
وهذا الاهتمام من غير سير علي ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين،ومساهمة في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط علها أن تكون مانعاً من الوقوع في تلك الأخطاء، وحافزاً للكتابة في هذا الموضوع الحيوي.
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك علي إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له، لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلي تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح، وتلك الضوابط هي:
أ) وجود الإشارة إلي الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.
ب) ثبوت النص وصحته إن كان حديثاً لتواتر القرآن دون الحديث.
ج) ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتاً قاطعاً وتوثيق ذلك توثيقاً علمياً متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلي القانون العلمي... فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز، ويجب في أثناء تلك الدراسة مراعاة الضوابط التالية:
1- جمع النصوص القرآنية أو الحديثية المتعلقة بالموضوع ورد بعضها إلي بعض لتخرج بنتيجة صحيحة لا يعارضها شيء من تلك النصوص بل يؤيدها.
2- جمع القراءات الصحيحة المتعلقة بالموضوع إن وجدت، وكذلك روايات الحديث بألفاظها المختلفة.
3- معرفة ما يتعلق بالموضوع من سبب نزول أو نسخ، وهل يوجد شيء من ذلك أو لا؟
4- محاولة فهم النص الواقع تحتم الدارسة علي وفق فهوم العرب إبان نزول الوحي وذلك لتغير دلالات الألفاظ حسب مرور الوقت، ولهذا يقتضى الأمر الإلمام بمسائل تعين علي فهم النص والتمكن من تقديم معنى علي آخر، وهي كالآتي:
(أ) إن النص مقدم علي الظاهر والظاهر مقدم علي المؤول.
(ب) إن المنطوق مقدم علي المفهوم وأن المفاهيم بعضها مقدم علي الآخر كذلك.
(ج) أن يخضع في تناوله للنص لقاعدة: العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين وأن العموم مقدم علي الخصوص والإطلاق مقدم علي التقييد، والإفراد علي الاشتراك، والتأصيل علي الزيادة، والترتيب علي التقديم والتأخير،والتأسيس علي التأكيد، والبلقاء علي النسخ، والحقيقة الشرعية علي العرفية علي اللغوية.
(د) مراعاة السياق والسباق وعدم اجتزاء النص عما قبله وما بعده.
(ه) مراعاة قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(و) معرفة معاني الحروف وعدم تفسير حرف أو حمله علي معني لا يقتضيه الوضع العربي.
(ز) مراعاة أوجه الإعراب وعدم القول بتوجيه لا يسانده إعراب صحيح أو قرينة أخرى.
(ح) أن المشترك اللفظي يمكن حمله علي واحد من معانيه دون نفى الآخر أو القطع بأن هذا هو الصواب وحده ما لم تكن هناك قرينة راجحة.
5- إظهار وجه الإعجاز: فإذا تم ذلك لم يبق علي الباحث سوى أن يظهر الربط بين الحقيقة الشرعية والعلمية بأسلوب واضح مختصر.
6- أن هناك أموراً من قبيل المتشابه لا مجال لفهمها أو تناولها بالبحث.
7- عدم البحث في الأمور الغيبية كموعد قيام الساعة وبداية الخلق والجنة والنـار ....
8- عدم الاعتماد علي الإسرائيليات أو الروايات الضعيفة.
9- الاعتماد علي المصادر المعتبرة في ذلك دون غيرها كأمهات التفسير والحديث وكتب غريب القرآن والسنة،مع الإشارة إلي جهود الدراسات السابقة إن وجدت.
10- الابتعاد عن تسفيه آراء منم علماء التفسير والحديث ورميهم بالجهل لأن القرآن والسنة خطاب للبشرية في كل عصر، والكل يفهم منهما بقدر ما يفتح الله به عليه، ويحسب متا يبذله من مجهود وما هو متوفر لديه من وسائل،ولن يحيط بفهم الوحي أهل عصر إلي قيام الساعة، فلا للتسفيه والتجهيل وإنما هي الاستفادة والتكميل. والدعاء لمن تقدم (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
بل الواجب إتباع فهم السلف رضي الله عنهم، وخصوصاً الصحابة ضروان الله عليهم لأنهم أدرى بذلك لما شهدوا من القرائنة والأحوال التي اختصوا بها،ولما لهم من الفهم التام والعلم الصالح لاسيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الرائدين وعبد الله بن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم.
فهم العمدة العدول بخبر الله تعالى، وعنهم أخذ التابعون وعلى نهجهم ساروا، فمن عدل عن تفسيرهم إلي ما يخالفه كان مخطئاً بل ومبتدعاً لأنهم كانوا أعلم بتفسير كتاب الله من غيرهم وأورع وأتقى .
11- ينبغي أن تحصر الدارسة فيما تمكن القدرة عليه فالأفراد يمكن ان يقصروا بحوثهم فيما يتعلق بالاكتشافات فيما هو خاضع لتجاربهم المخبرية ليصلوا من خلال ذلك إلي الحق، وللجامعات والمراكز والدول مجالات أكثر وأكبر.
12- ينبغي أن يعلم الباحث في هذا المجامل أن كلام الله تعالى وكلام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صدق وحق ولا يمكن بحال أن يخالف حقيقة علمية لأن منزل القرآن هو الخالق العالم بأسرار الكائنات، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، ومعرفة ذلك تقتضى منا التريث وعدم تحميل النص ملا يحتمله من أجل أن يوافق ما نظنه حقيقة، فإذا لم يتيسر ذلك بشكل واضح فعلينا أن نتوقف دون نفي أو إثبات ونبحث عن موضوع آخر والزمن كفيل بانكشاف الحق بعد ذلك.
13- علي الباحث أن يتحرى الصدق والصواب وأن يخلص نيته لله في تبين الحق للناس من أجل هدايتهم وأن يعلم خطورة ما يتناوله ويعبر عنه فهو عندما يقول: هذا المعني هو الذي يشير إليه قوله تعالى، فهو يفسر كلام رب العالمين، لذا يجب عليه أن يتذكر دائماً قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار).
14- ينبغي أن يتصف الباحث كذلك بالصبر متوفر الكفاءة العلمية المكتسبة حتى يميز الحق من الباطل ويقبله ويلتزم بالموضوعية، ومعناها هنا: حصر المعلومات ودراستها من غير تحيز لفكرة أو رأي سابق مع التقيد بالمنهج العلمي في التوثيق والاقتباس والإحالات.
التفسير في اللغة واصطلاح:
التفسير مشتق من السفر وهو الإبانة والكشف والتفسير مثله.
أما في الاصطلاح فلهت تعريفات منها، تعريفه بأنه: علمك يفهم به كتاب الله المنزل عليه نبيه (صلى الله عليه وسلم) وبيان معانية،واستخراج أحكامه وحكمه .
وهذا التعريف شامل لأنواع التفسير كلها، سواء ما كانت عنايته ببيان الألفاظ والتراكيب أو ما عني باستخراج الأحكام والحكم، ومن هذا الأخير التفسير العلمي الذي يتناول العلوم الكونية والصنائع والمعارف كعلم الهندسة والحساب والهيئة والاقتصاد والاجتماع والطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات وعلم طبقات الأرض .
التفسير العلمي:
هـو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي علي وجه يظهر به إعجاز للقرآن يدل علي مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان، وأجود منه وأعم تعريفه بأنه: الكشف عن معاني الآية أو الحديث في ضوء ما ترجحت من نظريات العلوم الكونية.
حكم التفسير العلمي:
وقع الخلاف في هذا النوع من التفسير بين العلماء من فترة طويلة ولازال الخلاف قائماً حتى هذه الساعة. والصواب في المسألة – والله أعلم – أن هذا جائز من قبيل التفسير بالرأي وهو جائز إذا تمت مراعاة الشروط الآتية إضافة إلي ما سبق ذكره من شروط، وهذه الشروط هي:
1- معرفة قواعد التفسير.
2- معرفة أدوات اللغة وقواعد النحو الأصول
3- الفهم الذي يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده الصالحين من خلال تدبرهم لآيات الكتاب العزيز.
4- أن لا يجزم المفسر أن هذا هو معني النص القرآني،وأن ما عداه خطأ – كما يفعل كثير من الباحثين – بل يقرر ما يراه – بعد توفر الشروط- للاستشهاد به علي وجه لا يؤثر علي قدسية النص القرآني لأن تفسير القرآن بنظرية قابلة للتغير يثير الشكوك حول القرآن للناس عندما يظهر خطأ تلك النظرية.
فاللازم أن يسأل الله العون والهداية ويبين أنا ما توصل إليه بفهمه، فإن كان صحيحاً مقبولاً فذلك من الله وإلا فالقرآن منزه عن التناقض والخطأ
أصول التفسير المتفق عليها عند علماء المسلمين:
ينبغي أن نعلم أن العلماء متفقون علي منهج لفهم كتاب الله فلا يمكن تجاهله أو تخطيه بل لابد من إتباعه، وهو:
1- أن يفسر القرآن بأقوال، فما أجمل في مكان فإنه قد فصل في موضع آخر، وما أختصر في موضع فقط بسط في موضع آخر.
2- أن يفسر القرآن بالسنة الصحيحة لقوله تعالى مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وسلم) (سـورة النحل آية 44) ولقوله تعالى: (...فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ولهذا قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة.
3- أن يفسر القرآن بأقوال الصحابة الصحيحة المتفق عليها معنى فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لاسيما علماؤهم وكبراؤهم.
4- أن يفسر القرآن بأقوال التابعين الصحيحة المتفق عليها معنى لأنهم تلقوهم عن الصحابة .
5- الأخذ بمطلق العربية لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولذا قال مالك – رحمه الله -: لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا .
6- التفسير بمقتضى الشرع الأخذ بمجرد الرأي.
يقول شيخ الإسلام أبن تيمية – رحمة الله – في مقدمة التفسير: (وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن والحديث وتأوله علي غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر علي الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد، هو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام).
وهو- رحمه الله – يقصد بهذا من يخالف ما هو ثابت، أو يتكلم بغير علم، بدليل قوله بعده: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة علي تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه.
الفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي:
الذي يظهر أن التفسير العلمي بحسب الإطلاق أعم من الإعجاز العلمي، فكل إعجاز علمي فهو من قبيل التفسير العلمي دون العكس، هذا من حيث العلاقة بينهما، أما من حيث وضعهما كمصطلحين فيمكن أن نفرق بينهما بما يأتي:
1- الإعجاز العلمي خاص بما يتعلق بالتوفيق بين الحقائق الشرعية والحقائق الكونية، والتفسير العلمي يتناول النظريات والإشارات الضمنية.
2- أن الإعجاز العلمي متفق عليه بين أهل التفسير، والتفسير العلمي مختلف فيه، بل أن مكن العلماء من يحرمه.
3- أن التفسير العلمي – إذا لم تراع ضوابطه وشروطه- يكون سبباً في وقوع الخطأ في فهم كتاب الله تعالى لسعة مجاله، ولذا فإن كثير من الباحثين المعاصرين انحرفوا فيه عن الصواب فوقعوا في أخطاء شنيعة عندما حاولوا ربط فهومهم للوحي بنظريات وفروض خاطئه.
أما الإعجاز العلمي في القرآن والسنة فهو أوضح من ذلك وأبعد،والخطأ فيه أقل إذ أنه غالباً ما يكون في عدم الربط بين الحقيقة الشرعية والكونية، إلا أن كثيراً من الباحثين لا يفرقون بين الإعجاز العلمي والتفسير العلمي.
وبمراعاة ذلك يحصل الإعجاز ويظهر صدق الله وكتابه ورسوله (صلى الله عليه وسلم) للناس جميعاً، وبذلك يتم الانسجام بين الآيات الشرعية والكونية، وفي ذلك دعوة إلي الإيمان، كما أن فيه إثبات صلاحية الكتاب والسنة لكل زمان ومكان.
وليس المراد من هذه الضوابط الحجر علي الباحثين أو منعهم من التدبر في كتاب الله، وإنما هو محاولة لضبط مسيرة البحث وإرشاد الباحثين المسلمين إلي الطريق الصحيح لفهم كتاب الله تعالى في هذا الجانب المهم (الإعجاز العلمي، والتفسير العلمي) ويمكن للباحث غير المتخصص أن يراجع أهل الاختصاص فيما يخفى عليه أو يشترك مع متخصص من أجل الوصول إلي الحق، بعيداً عن تقليد الآخرين وترديد أقوالهم.
__________________
يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله :
” من نذر نفسه لخدمة دينه فسيعيش متعباً
ولكن سيحيى كبيراً ويموت كبيراً ويبعث كبيراً ..
والحياة في سبيل الله .. أصعب من الموت في سبيل الله “